من الأبحاث التي أقترحها على إخواننا طلاب العلم التراثيين جمع شتات المخطوطات التي تملَّكها عالم أو علَمٌ من أعلام التاريخ الإسلامي، فهذا يُعتبر خدمةً لعلم ذلك العالم، وإبرازًا لقبسٍ من سيرته العلمية، وهناك علماءُ وأعلام اشتهروا بتملكات المخطوطات، كشرف الدين بن شيخ الإسلام زكريا الأنصاري رحمة الله عليهما فقد كانت مكتبته تحوي نفائس المخطوطات التي لم تجتمع عند غيره بمثل ما اجتمعت له مما ورثه من جده زكريا الأنصاري واقتناه بنفسه وكان ضنينا بها لا يعيرها لأحدٍ حتَّى توفَّاه الله عزَّ وجلَّ فبيعت كتبه بالزَّنابيل وتفرَّقت شذر مذر، ومن حفظ الله تعالى للتراث الإسلامي أنَّ جانبًا لا بأس به من مكتبة هذا العالم لا زال محفوظًا ومبثوثًا في مكتبات الخافقين، وقد جمعتُ من تملكاته شيئًا كثيرًا بحمد الله ولا زلت أجمع لأكتب -بإذن الله- شيئًا عن هذا العالم وعن مكتبته، نسأل الله التوفيق لبلوغ المرام، والقصد من هذا التمثيل على أنَّ مثل هذه البحوث لا شكَّ أنَّها ستثمر علمًا وتفيد المكتبة التُّراثية.
‫#‏تملكات_المخطوطات‬
عندما أنسخ قيد سماع بخط عالم من علماء السُّنَّة والأثر كابن قاضي عجلون (ت:928) رحمة الله عليه، أتوه لوهلة وأسافر عبر السطور، إلى عالم آخر وزمنٍ جميل، أتخيَّل فيه بركة المجلس العامر بالصَّلاة والسَّلام على رسول الله صلَّى الله عليه وسلم، وبركة مجلس الذِّكر الَّذي تحفُّه الملائكة، وبركة العلم الَّذي تستغفر الحيتان في البحر لطالبه، ثُمَّ لوهلةٍ أخرى أفطن من سكرتي وأصحى من نومتي لأتذكر أنَّي لستُ هناك ولستُ أدري -لعمرك- هل هذا لي نعيمٌ أو عذابٌ فما أقرب الأحبَّة وما أبعدهم:
ومن العجائب والعجائب جمَّةٌ *** قرب الحبيب وما إليه وصول
كالعيس في البيداء يقتلها الظَّما *** والماء فوق ظهورها محمول
نسأل الله تبارك وتعالى أن يحشرنا مع أهل حديث رسول الله صلَّى الله وعليه وسلم
فهم القوم...
لا يشقى بهم جليسهم.
----------------
(*) السماع من الجزء الثَّامن من صحيح الإمام البخاري، نسخة خزائنية نفيسة عليها ختم مطموس للسلطان بايزيد الثاني ت: 918، من نفائس مكتبة الغازي خسروبك بسراي بوسنة برقم: 3798.
‫#‏زخم_التراث‬
‫#‏إفادات_من_مخطوطات‬

جانبٌ من دقَّة السَّلف في الضَّبط والرِّواية

جانبٌ من دقَّة السَّلف في الضَّبط والرِّواية




قال الإمام البخاري رحمة الله عليه في الجامع الصَّحيح برقم: (6241)
(بابٌ الاستئذان من أجل البصر
حدَّثنا علي بن عبد الله حدثنا سفيان قال الزهري -حفظته كما أنَّك ها هنا- عن سهل بن سعدٍ قال اطَّلع رجلٌ من جُحْر في حُجَر النَّبي صلى الله عليه وسلم ومع النَّبي صلَّى الله عليه وسلم مدرى يحكُّ بها رأسه فقال: لو أعلم أنَّك تنظر لطعنت به في عينك إنَّما جعل الاستئذان من أجل البصر) (*)
قلت: في هذا الحديث العظيم جانبٌ عظيم من جوانب دقَّة السَّلف في الضبَّط والحفظ والرِّواية وهو قول الإمام سفيان بن عيينة (**) ت: 198هـ: (حفظته كما أنَّك ها هنا) فهو تأكيدٌ منه رحمه الله لحفظه لهذا الحديث وأنَّ حفظه مستقرٌّ في ذهنه وموجود ومتأكِّدٌ منه كتأكُّد وجود من يُحدِّثه بهذا الحديث، قال ابن حجر رحمه الله: (وقوله كما أنك ها هنا أي حفظته حفظا كالمحسوس لا شك فيه) اهـ، ثُمَّ يأتي من لا يُحسن يستنجي -أكرم الله القارئين- ويُشكِّك بكتب السُّنَّة والحديث الَّتي أفنى السَّلف أعمارهم ومُهَجَهُم في حفظها وصونها عمَّا ليس منها، ولذا ينبغي على المشتغلين بعلوم السُّنَّة ألا يتهاونوا عن نشر مثل هذه الجوانب المشرقة في حفظ السَّلف ودقَّتهم وضبطهم ليهلك من هلك عن بيِّنةٍ ويحيى من حيي عن بيِّنة والحمد لله ربِّ العالمين.
------------
(*) السادس من البخاري، نسخة الغازي خسرو بك بسراي بوسنة برقم: 455، وهي من نفائس المكتبة نسخت سنة 700 هـ.
(**) قال ابن حجر: (قوله سفيان قال الزهري كانت عادة سفيان كثيرا حذف الصيغة فيقول فلان عن فلان لا يقول حدثنا ولا أخبرنا ولا عن، وقوله حفظته كما أنك ها هنا هو قول سفيان) [الفتح 24/11]
‫#‏إفادات_من_مخطوطات‬
‫#‏زخم_التراث